إعلان أبوظبي.. ومستقبل القرار العربي

لم يلمح كثيرون مدى تسارع التحركات السياسية الإماراتية “الاستباقية” أو “غير المسبوقة” و”الكاشفة” خلال الشهور الست الماضية على الأقل، والتي افصحت عن جانب من رصيد بنك الأهداف السياسية والاستراتيجية لدى القيادة الإماراتية واعادت التذكير بالدور المبادر للقيادة الإماراتية على المستويين الإقليمي والعالمي منذ قرار المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان باستخدام سلاح النفط عام 1973 أي بعد عامين فقط على قيام دولة الاتحاد، حيث كان قرار تاريخي حاسم لا زالت أسواق الطاقة العالمية ومعاهد العلوم السياسية تدرس تداعياته وسيناريوهات تكراره إلى اليوم.

لقد كانت احداث العام 2020 وعلى رأسها جائحة كورونا وتداعياتها الصحية والاقتصادية والسياسية العالمية، نذير شوؤم بالنسبة للعديد من البلدان، ومن بينها دولة الإمارات التي رسخت مكانتها السياحية كأحد أبرز الوجهات العالمية خلال العقدين الماضيين، فجاء قرارها المبكر في مارس الماضي بتأجيل تنظيم معرض إكسبو الدولي إلى العام المقبل بعد أن كان مقرر عقده في دبي في أكتوبر المقبل، بعد سنوات من التجهيز للحدث العالمي الذي فازت عاصمتها الاقتصادية بتنظيمه بعد منافسة طاحنة مع عدة بلدان، ويبدو أنه في هذا الوقت المبكر قررت القيادة الإماراتية تحويل محنة الوباء إلى فرصة لإدارة الأزمة والخروج منها بأقل الخسائر وأعلى المكاسب الممكنة.

ولم تنقطع التحركات منذ ذلك الحين، إذ بالتزامن مع تكثيف التحركات على المستوى الدولي لمواجهة وباء كورونا والعمل على تخفيف تداعياته عبر سياسة مساعدات فعالة وواسعة، وفي أواخر مارس الماضي أيضا أجرى الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، اتصالا هاتفيا نادرا بالرئيس السوري بشار الأسد، مؤكدا إن “سوريا لن تبقى وحدها في هذه الظروف الحرجة”، وهو ما يمثل خطوة نوعية على المستوى الخليجي والعربي، حيث تقاطع معظم الدول العربية النظام السوري رسميا منذ بداية الأزمة عام 2011، فيما أعادت الإمارات افتتاح سفارتها في دمشق قبل نحو عامين من أجل “درء مخاطر التدخلات الإقليمية في الشأن العربي السوري” حسبما أعلنت الإمارات، كما ذكر الدكتور أنور قرقاش وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية حينها أن “قرار دولة الإمارات العربية المتحدة بعودة عملها السياسي والدبلوماسي في دمشق يأتي بعد قراءة متأنية للتطورات ووليد قناعة أن المرحلة القادمة تتطلب الحضور والتواصل العربي مع الملف السوري حرصا على سوريا وشعبها وسيادتها ووحدة أراضيها”.. إذاً نحن أمام خطوات سياسية وقرارات سيادية تأتي بناء على “قراءة استشرافية للمرحلة القادمة” ومقتضياتها، ولعل حرص الإمارات على تبرير خطواتها أو بمعنى أدق الشفافية في توضيح أهداف سياستها الإقليمية، ييسر على المراقبين لاحقا تقييم تلك الخطوات وقياس وزنها النسبي في تحقيق الأجندة المعلنة للدبلوماسية الإماراتية التي تتحرك في بيئة من الاستقطاب الإقليمي وسياسة المحاور وعقلية التبسيط التي تقيس كل تطور يومي إما على أنه مكسب لما يسمونه “محور الإمارات” أو خصما منه لصالح غريمه الإقلميي “محور قطر وتركيا”.

وقبل أيام استيقظ العالم العربي على “مفاجأة” الاتفاق الثلاثي بين الإمارات والولايات المتحدة واسرائيل أو ما سمي اتفاق السلام الإماراتي-الإسرائيلي، وهو اتفاق فريد من نوعه، ليس فقط من زاوية قيام دولة عربية خليجية من خارج دول المواجهة المباشرة مع اسرائيل “تاريخيا وجغرافيا” بالاتفاق على إقامة علاقات دبلوماسية رسمية ومعلنة مع اسرائيل، ولكن أيضا أن الاتفاق يتعلق بمسألة هي بالأساس تخص طرف “ليس طرفا” في هذا الاتفاق وهم الفلسطينيين، فالاتفاق يعني وقف ضم اسرائيل لمزيد من أراضي الضفة الغربية المحتلة، وهي بالمناسبة تشمل أراضي محتلة من اسرائيل في الضفة والقدس والجولان السوري وغيرها، وهو ما يعني نظريا وضع حد لمزيد من التهور الإسرائيلي-الأميركي الذي أدى خلال فترة ترامب الأولى إلى خطوات ليس فقط من شأنها تصفية القضية الفلسطينية وانهاء مقومات الحل السلمي للصراع الممتد منذ عقود، الذي اعتبره العرب بالاجماع خيارا استراتيجيا منذ نحو عقدين لكن دون جدوى، ولكن أيضا هذا القرار أعاد رسم قواعد الاشتباك مع المسألة الاسرائيلية، التي باتت “لاعبا خفيا” ولكنه لا يخفى على أحد، في مجمل التفاعلات والأزمات الاقليمية التي احتكرت تحريكها لسنوات قوى اقليمية غير عربية وعلى رأسها إيران وتركيا.. وإسرائيل بطبيعة الحال، دون مبادرة عربية واضحة وفعالة في أي من تلك الأزمات باستثناء ما نلاحظه مؤخرا من مواقف توافقية فاعلة تقودها مصر والسعودية والإمارات، نجحت حتى الأن وعلى أقل تقدير في تحجيم التدخلات الإيرانية في بعض الأزمات، ورسم خطوط حمراء للمشروع التوسعي التركي كما جرى في ليبيا وشرق المتوسط، لكن التحرك والاشتباك مع القوة الإقليمية غير العربية الثالثة ظل غائبا ويفتقر إلى أي تحرك خلاق وسط قضم اليمين الاسرائيلي لمساحات أوسع كل يوم ليس في فلسطين فقط، لكن في معظم ساحات تقاسم النفوذ والأدوار الخارجية في إقليمنا المضطرب واحيانا بتنسيق أو بتلاقي مع أجندات مع القوتين التركية والإيرانية.

يجادل البعض بأن الخطوة الإماراتية لم تأت إلا لتحقيق أهداف ملحة تتعلق بدعم فوز الرئيس الأميركي ترامب بولاية رئاسية ثانية، من خلال تحقيقه وحليفه الإسرائيلي المأزوم داخليا لهذا “الانتصار الدبلوماسي”، في الوقت الضائع أمام الإدارة الأميركية التي واجهت ضغوط غير مسبوقة لم تتوقف عند حد مسائلة الرئيس لتتطور خلال الشهور الماضية إلى انتفاضة اقليات في ظل وباء عالمي، جعلت وللمرة الأولى منذ سنوات الاستقرار الداخلي للقوة الأولى عالميا على المحك.. فهل استغلال دولة الإمارات لتلك الورقة الرابحة في ظل رهان محور الشر على مجئ الديمقراطيين واعتراف من يتبنى هذا الجدل بقدرة الإمارات على التأثير في مستقبل القيادة السياسية في تل أبيب وواشنطن، يمثل مدعاة للخجل أو مثار للذم والنقد؟!

إن التحول الذي دشنه ما يمكن تسميته “إعلان أبوظبي” ليس قفزا بالهواء أو تنازلا عن الثوابت أو رحلة ذهاب بلا عودة، بل محاولة لمخاطبة القوى القائمة في المنطقة والعالم باللغة التي تفهمها، لغة المصالح والضغوط والمساومة، وهذا لا يجب أن يعني التهاون في الموقف العربي الثابت الذي توصل إلى إجماع بعد عقود من الصراع على أنه لا حل للقضية الفلسطينية إلا من خلال قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وما يتضمنه ذلك من حسم قضايا الحل النهائي المتعلقة بالحدود والقدس واللاجئين والاستيطان، لكن علينا كعرب أن نفكر كيف يمكننا حل تلك المعضلات بطريقة عقلانية وواقعية بعيدا عن الشعارات الجوفاء أو مجرد الاستناد إلى قرارات دولية وعربية ودعوة اسرائيل والمجتمع الدولي إلى الإلتزام بها “مقابل السلام” من دون أن نصيغ هذا “السلام” في صورة مبادرات ملموسة وخطوات مرحلية، فهل يمكن حل كل معضلات القضية الفلسطينية “بضغطة زر”؟ كما أن ذلك لا يعني أيضا أن نمنح اسرائيل سلاما مجانيا أو مقدما، كما أن تأكيدنا على تأييد وتفهم محددات الخطوة الإماراتية ليس بمثابة دعوة لتعميمها على بقية البلدان، وخاصة وسط ما نلمحه من دعوات للتطبيع في دول عربية أخرى مثل حالة “سودان” ما بعد ثورة ديسمبر، ربما لن تتمتع بأي قدر معتبر من الندية حال اقدامها على تلك الخطوة مقابل مساعدة متوقعة للخروج من مشكلاتها الداخلية أو لتحسين العلاقات مع واشنطن، على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تشترط ذلك لرفع العقوبات وتطوير العلاقات التي تشهد بالفعل تحسنا لافتا منذ زوال نظام البشير.

إن ترحيب مصر رسميا بالخطوة الإماراتية، يؤكد أولا وقبل كل شئ، صوابية خيارنا الاستراتيجي بشأن السلام، بوصفها أول دولة عربية تقيم علاقات دبلوماسية كاملة معها بموجب اتفاق السلام الذي أنهى الحرب بين الجانبين وأعاد لمصر أراضيها، وطبيعة دورها المبادر في تلك القضية والذي اعادت التأكيد عليه في مايو ويوليو 2016 حين دعت الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني إلى السلام من أجل تغيير واقع المنطقة برمتها في وقت كادت فيه القضية الفلسطينية أن تتوارى خلف ملفات الأزمات المشتعلة الأخرى، وعلاوة على ذلك يرتبط موقف القاهرة المرحب بصورة أكثر آنية بطبيعة التفاعلات الراهنة على مستوى الإقليم، حيث تقوم مصر والسعودية والإمارات بأدوار أساسية في مواجهة هجمة التدخلات الإقليمية في البلدان العربية، وفي ظل معركة شرق المتوسط التي ليست بعيدة عن ما يجري في سوريا ولبنان وليبيا، وفلسطين أيضا، وليست بعيدة عن خطوات مصر التي نجحت في تدشين تكتلات عابرة للإقليم حول مصالح استراتيجية معينة عنوانها الأمن والطاقة والرخاء للجميع.

ينبغي على الإمارات أن تتفهم المواقف غير المرحبة بالاتفاق، فبغض النظر عن المواقف المغرضة المصطنعة في ماكينة الدعاية القطرية والتركية، يعد الموقف الفلسطيني حاسما من أجل البناء على الخطوة الايجابية المتعلقة بوقف ضم الأراضي الفلسطينية، ولإثبات جديتها وعدم تحولها إلى مجرد مراوغة جديدة بيد إسرائيل، وسيكون أمام أبوظبي فرصة لطرح رؤية جديدة للتحرك العربي في القضية الفلسطينية خلال الاجتماع القادم لمجلس الجامعة العربية بصورة تتضمن خطوات واقعية مرتبطة بمصالح حقيقية يمكن طرحها ضمن مسار موازي يرتكز على إعادة انهاء حالة تجميد القضية الفلسطينية ومواصلة حصد المكاسب المرحلية باعتبارها جوهر مسألة الشرق الأوسط، وبصورة تقطع الطريق على المتاجرين بالقضية من أجل مصالح ضيقة أو من يتوهمون إمكانية توقيع صك تنازل عنها مقابل رضا اسرائيل والغرب أو حتى من يحاول تصفية القضية واجهاض أي فرصة ممكنة لحل الدولتين، وكل ذلك لا يعني التنازل عن مبادرة السلام العربية أو حتمية وجود موقف وقرار عربي مشترك بشأن “قضية العرب المركزية” أو هكذا يجب أن تكون.

مقال- د. أحمد أبوزيد

باحث في إدارة الأزمات والتقديرات الاستراتيجية

 

 

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد