لماذا يثق المستثمرون بـ”عملة” ليس ليها وجود؟!

تبدو المسألة وكأنها ضرب من الخيال، كيف ارتفع سعر عملة مشفرة، افتراضية «ليس لها وجود حقيقي»، أي «البيتكوين» ليتجاوز 46 ألف دولار أميركي، في حين أن قيمة هذه العملة عند إطلاقها في يناير 2009، كان يحسب بما يعادل قيمة الكهرباء التي يستهلكها الكمبيوتر المستخدم لإصدار هذه الشيفرة التي تسمى «البيتكوين»، وفي حينه قدرت قيمتها بـ 1309 بيتكوين لكل دولار أميركي واحد؟
أي أن الشخص الذي اشترى «بيتكوين» بدولار واحد في يناير 2009 أصبحت قيمة ثروته اليوم تتجاوز 60 مليون دولار أميركي !!!
ففي الوقت الذي تنهار فيه عملات حقيقية تقف خلفها بنوك مركزية باحتياطيات دولية، تطرح هذه الظاهرة سؤالاً رئيسياً، من أين جاءت ثقة المستثمرين بهذه العملة الافتراضية؟
بدايةً، تعرف العملة من حيث المبدأ، على أنها النقد أو أداة التداول التجاري، وتعرف أيضاً على أنها بضاعة ذات قيمة تداولية فقط، يحفظ قيمتها المصرف المركزي الذي أصدرها.
والعملة هي أداة لقياس قيمة السلعة من خلال السعر، وذلك للمساعدة على إتمام عمليات التبادل التجاري.
وحتى الآن، لا يمكن الاستغناء عن العملات كمقياس للقيمة، في الحياة اليومية، لكن الأدوار والمهام الأخرى المناطة بالعملات هي التي أصبحت في موقع الخطر، ويعتبر هذا هو السبب الرئيسي الذي دفع المستثمرين للبحث عن بدائل للعملات التقليدية.
وتاريخياً، كان يلجأ المستثمرون في أوقات الأزمات لما يسمى الملاذات الآمنة، مثل الذهب أو بعض السلع الاستراتيجية، أو العملات «الصعبة»، أي «الموثوقة»، وفي مقدمتها كان دائماً الدولار الأميركي.

ولكن ماذا حدث؟ 
بعيداً عن الخوض في آليات وتعقيدات أسواق النقد والعملات العالمية، ببساطة، إذا كان هناك فلاح، في بلد ما، يدخر حصة من إيراداته أو راتبه بشكل منتظم، لكي يشتري منزلاً، وبعد 10 أو 15 عاماً من الادخار، يصحو يوماً من النوم، فيجد أن كامل مدخراته قد تبخرت، لا لأن أحداً سرقها، بل لأن البنك المركزي لذلك البلد، قام بتخفيض سعر الصرف بقرار تم اتخاذه في «ليلة ظلماء»، وبالتالي القيمة الحقيقية للأوراق النقدية التي يملكها أصبحت لا شيء، أو خسرت 60% أو 70% وربما أكثر من قيمتها (حسب قرار التخفيض). باختصار، إن العملة لم تعد أداة موثوقة للادخار، لقد أصبح ذلك جلياً للعيان بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، حيث لجأت معظم البنوك المركزية، في الدول الكبرى لما يعرف بـ«التيسير الكمي»، أي ضخ أموال نقدية في الأسواق لمواجهة آثار الأزمة؛ بهدف إنقاذ المؤسسات المفلسة، دون أن يكون لهذه النقود الجديدة مقابل في الإنتاج أو الاحتياطيات.

تقلبات كبيرة
لقد أدى ذلك إلى تعرض العملات «الصعبة» لتقلبات كبيرة، الأمر الذي أفقد العملات المتداولة صفة أخرى من صفاتها التقليدية، وهو كونها «بضاعة» يتم المتاجرة بها وبيعها وشراؤها كأي بضاعة أخرى، فقد أصبحت هذه العملية تنطوي على مخاطر كبيرة، ما دفع المستثمرين للبحث عن ملاذات آمنة جديدة.
لكن هذه الملاذات ظلت مكان شك، لأنها غير مضمونة أيضاً، ولأن الارتفاع في أسعار الأسهم والذهب لم يأتِ نتيجة لزيادة الإنتاج والاستهلاك، والطلب والنمو الاقتصادي، وإنما نتيجة لارتفاع (مفتعل) في مستويات السيولة، ما أدى إلى ظواهر متناقضة في الأسواق العالمية، على سبيل المثال، كيف يمكن أن ترتفع مؤشرات البورصات العالمية إلى مستويات تاريخية غير مسبوقة، في حين يسجل التضخم نمواً سالباً؟! هذه مؤشرات متناقضة تماماً.

النقد الموثوق
وكذلك المستثمرون يحتاجون للاحتفاظ بالنقد الموثوق في زمن الأزمات، الأمر الذي أصبح غير ممكن في ظل سياسات التيسير الكمي للبنوك المركزية بالعالم، والتي تجاوزت خلال جائحة «كوفيد – 19» أي منطق اقتصادي، إذ إن الحكومات بدأت توزع النقد مجاناً على المواطنين، ليشتروا به سلعاً وخدمات ذات قيمة.
وفي ظل غياب أفق لحل يعيد أسواق النقد والعملات العالمية إلى مسارها الموثوق، بدأ يطفو على السطح الطلب على العملات المشفرة أو الافتراضية، واللافت للانتباه أن مكمن الضعف الرئيسي في نظام العملات الافتراضية الذي كان سبباً للتشكيك بها وعدم الثقة، وهو (عدم وجود بنك مركزي يصدرها ويضمن قيمتها) أصبح هو نقطة القوة الحقيقية، إذ إن قوة معظم العملات الافتراضية اليوم تكمن في أنها لا تخضع لرغبة أو قرار أي جهة، إلا لضابط واحد وهو «آلية العرض والطلب، أي آليات السوق لا غير». إضافة لذلك، أصبحت هذه العملات متداولة لدى ملايين المستثمرين، وهو العامل الذي يمنح الثقة لأي عملة بغض النظر عن مصدرها، باختصار: «قوانين السوق أكثر أمناً وثقةً من البنوك المركزية».

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد