مدينة مصدر الإماراتية.. نموذج للتنمية المستدامة

إعداد/ رامز صلاح الشيشي، كاتب وباحث سياسي مصري

مقدمة

تقع مدينة مصدر ضمن حدود أبو ظبي، عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي تمثل نموذجًا فريدًا للسكن الحضري والتنمية، بل والحياة المستدامة حيث وُضِعَتْ اللبنة الأولى للمدينة في العام ٢٠٠٦. وبشكل خاص، يمتد استخدام مصطلح “مصدر” باللغة العربية إلى قدرته على الدلالة على أصل الشيء ومنبعه، فيُقال مصدر الطاقة مثلًا. إلى ذلك، وبجانب المعنى اللغوي تشابه مدينة مصدر الإماراتية إلى حد كبير أو بالأحرى تقترب واقعيًا من “المدينة الفاضلة”، وقد استخدم السير توماس مور مصطلح “المدينة الفاضلة” في روايته يوتوبيا عام 1516، والتي تتصور مجتمع جزيرة أسطوري في العالم الجديد. فصُمِمَتْ المدينة تحت رعاية مصدر، وهي شركة تابعة لشركة مبادلة الإماراتية للاستثمار، وتغطي مدينة مصدر مساحة 6 كم²، وهي بدورها المحوري تقف كدليل واقعي وفريد على رعاية الزخم المالي الأولي لحكومة أبو ظبي التي تدعم وتضع هدف تحول دولة الإمارات نحو اقتصاد قائم على المعرفة نصب عينيها، فقُدِرَتْ نفقات بناء مدينة مصدر الإماراتية بين حوالي ١٨,٧ مليار دولار أمريكي إلى ١٩,٨ مليار دولار أمريكي. والجدير بالذكر أن غالبية الاستثمار الأولي، يُقَدّر بحوالي ١٥ مليار دولار أمريكي، تم تخصيصها من قبل السُلطات الحكوميّة في أبو ظبي مع دعم هائل من مؤسسات استثمارية أخرى مثل بنك كريدي سويس، صندوق البيئة العالمي.

وفي هذا السياق، بدأ بناء مدينة مصدر الإماراتية على عدة مراحل، وتبلورت المرحلة الأولى للمدينة، التي نُظِمَتْ وتَهْندَست من قِبَلْ البراعة المعمارية لـشركة فوسترز آند بارتنرز البريطانيّة في فبراير ٢٠٠٨؛ من أجل تكون مصدر نموذجًا أصيلًا من نوعه للمدن المستدامة التي تعمل بالطاقة المتجددة فقط، وتجسيدًا حيًا لتأصيل عالَم التكنولوجيا المتطورة والطاقة المتجددة لعصر ما بعد النفط، النفط الذي ما انفكَّ يشهد تقلبات وتحولات تشابه وتحاكي تحولات آلة الأكورديون التي تصدر نغمات تارة مفرحة، وتارة محزنة. وبلغت مدينة مصدر ذروتها في عام ٢٠١٠ مع بناء المؤسسة البحثية العالمية الهادفة إلى التقليل من تأثيرات البشر على البيئة عبر ابتكار تقنيات فريدة. وتشكّل بناء مدينة مصدر الإماراتية عبر مراحلها المختلفة من خلال إعادة استخدام مواد مستدامة تم إعادة تدويرها سواء تمثل ذلك في نوعية وجودة المواد من (أخشاب النخيل، الألومنيوم، الزجاج، الألواح الشمسية، الدهانات المائية، الفولاذ، أو حتى في نوعية الخرسانة التي تتضمن قوة أكبر من الأسمنت العادي، ومكونًا كربونيًا أقل). وعامةً، تتركز الفلسفة التأسيسية لمدينة مصدر الإماراتية حول تسخير التقنيات عبر آليات الرقمنة، والوجود الخالي من النفايات، وكذا الحياد الكربوني، فضلًا عن تجاوز مفهوم النماذج الحضرية التقليدية. فمدينة مصدر مستدامة لحوالي أكثر من ٤٠ ألف ساكن، ١٥٠٠ كيان مؤسسي استثماري، فالتجسيد الهادف لمدينة مصدر هو تنظيم تآزر متناغم لا يُمحى بين السكان والاستدامة.

الأساس المنطقي وأهمية مدينة مصدر الإماراتية

كان ظهور مدينة مصدر مدفوعًا من خلال أساس منطقي وسبب مزدوج لتظهر للوجود يتركز حول نقطتين هما تبني وتعزيز الطاقة المتجددة وإعادة صياغة النماذج الحضرية لتكون متناغمة ومستدامة بيئيًا. إلى ذلك، يتركز الظهور المادي للمدينة باعتبارها حلقة وصل تعزز صعود الإمارات العربية المتحدة داخل عالم الطاقة العالمي، مما سيؤدى في الوقت نفسه إلى دفع التنويع الاقتصادي الإماراتي وتوفير سلالة الطاقة للأجيال التي لم تولد بعد.

فمدينة مصدر الإماراتية هي بمثابة بوصلة استراتيجية معايرة لتحفيز تحويل الطاقة، تشرع مدينة مصدر في تقديم حلول طاقة نقية تفضي إلى تحقيق طموحات في عالم التحول إلى الاستدامة، والحفاظ على البيئة بما سيتماشى بشدة مع مؤتمر تغير المناخ COP28 والذي سينعقد في دولة الإمارات. بالإضافة إلى ذلك، تهدف مدينة مصدر إلى الارتقاء بنفسها عبر توفير المسكن الفريد والمستدام؛ أي تقديم نموذج أصلي للسكن الحضري القابل للحياة والسليم بيئيًا، هذا إلى جانب جذب وتحفيز الاستثمارات الأجنبية المباشرة. فمدينة مصدر تتسم بالسمو الإقليمي والعالمي، وهي تمثل نموذجًا مثاليًا مصممًا ببراعة في تطويع واستغلال التضاريس الصحراوية القاحلة. يمتد هذا السمو والتفرد إلى وجود مجموعة من التصميمات المعايرة بدقة لمنح البرودة الطبيعية على أجواء المدينة كليًا، ليشكل جانبًا وأساسًا حاسمًا من محورية مدينة مصدر نفسها في مجموعة الصروح منخفضة الكربون، والذي سيدفع بدوره إلى تبني ومحاكاة نموذج مدينة مصدر في أماكن أخرى حول العالم. ووفقًا لبلومبرج، من المتوقع أن تكتمل المدينة بشكل نهائي بحلول نهاية عام 2030.

المكاسب الاقتصادية لمدينة مصدر الإماراتية

تبرز المكاسب الاقتصادية لمدينة مصدر الإماراتية بفاعلية، مما ينعكس ويحقق أرباحًا متواصلة للاقتصاد الإماراتي. فمع وجود قوة عاملة كبيرة تبلغ حوالي ٧٠ ألف فرد، فإنها تمارس تأثيرًا ملموسًا، فتساهم مدينة مصدر بنسبة تزيد عن ٢٪ في الناتج المحلي الإجمالي السنوي للإمارات العربية المتحدة. والجدير بالذكر أن التزامها بتعزيز الممارسات المستدامة يتجلى في استثماراتها الكبيرة البالغة ١٩,٩ مليار دولار في مبادرات الطاقة الخضراء. يُترجم هذا الاستثمار الحازم إلى حصة جديرة بالملاحظة تزيد عن ٨٪ في مشهد الطاقة المتجددة على المستوى العالمي.

ومن الأمور ذات الأهمية الخاصة أيضًا، الكفاءة الكهروضوئية التي أظهرتها ألواح الطاقة الشمسية داخل حدود مدينة مصدر. يقف هذا التركيب كتجسيد نموذجي لتفاني المدينة في توليد الطاقة المستدامة، مما ينتج عنه إنتاج سنوي غزير من الكهرباء المتجددة. من خلال هذا الإنجاز الرائع، تنجح المدينة في تعويض كمية كبيرة من انبعاثات الكربون تبلغ 7350 طنًا متريًا، مما يخطو خطوات جديرة بالملاحظة نحو تحسين البيئة، في ضوء خطة الدولة بتقليل الاعتماد على المصادر الطاقوية التقليدية.

بالإضافة إلى مساعيها في مجال الطاقة، تقف مدينة مصدر الإماراتية كنواة لنشاط ريادة الأعمال، حيث تضم أكثر من ١٠٠٠ مؤسسة تستفيد بشكل تآزري من بنيتها التحتية الحديثة. كما تمنح السمة البارزة للمنطقة الاقتصادية الحرة، الشركات حق الملكية الأجنبية غير المقيدة، مدعومة بإعادة الموارد المالية والأرباح إلى الوطن دون عوائق من الإمارات العربية المتحدة. هذه الميزة تحفز فعالية الأعمال والتعاون الدولي والاستثمار بشكل عام بعيدًا عن أي عوائق من قبيل البيروقراطية.

وينعكس التأثير التراكمي لإنجازات مدينة مصدر الإماراتية في المساهمة بشكل كبير في المكانة الدولية للإمارات العربية المتحدة. من خلال تجسيد مُثُل الاستدامة والابتكار والديناميكية الاقتصادية، تضع المدينة الإمارات العربية المتحدة كشعار للتقدم والمواطنة العالمية المسؤولة. يتردد صدى هذه الرواية بشكل فعال مع أصحاب المصلحة الدوليين، مما يزيد من ترسيخ مكانة الإمارات العربية المتحدة كدولة استشرافية تعزز الرخاء الاقتصادي والوئام البيئي.

وختامًا لذلك، مع التطور المستمر الذي تبذله دولة الإمارات العربية المتحدة في الارتقاء بالنماذج الحضرية بالتطبيق على واقع مدينة مصدر التي تقوم بدورها الطليعي في الاستدامة المبتكرة، مما يضيء المسارات نحو الحياة الحضرية الخضراء. يُمكن التأكيد بناءً على ذلك الوضع المتطور في مدى أهمية تلك المساعي في الانسجام مع السياسات العالمية للحفاظ على البيئة، وهو ما سيتضح في مؤتمر المناخ القادم في الإمارات COP28 ، وكذا تطبيق سياسات التنويع الاقتصادي من أجل خدمة الاقتصاد الإماراتي، وتعزيز فاعليته على المستويين الإقليمي والدولي.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد