هيمنة الدولار… لماذا لا تزال كل الطرق المالية تؤدي إلى واشنطن؟”
أجرته \ رباب سعيد مراسلة مجلة استثمارات الإماراتية شؤون مصر وشمال إفريقيا

في عالم تتقاطع فيه المصالح الاقتصادية مع النفوذ السياسي، يظل الدولار الأميركي حجر الأساس في النظام المالي العالمي، رغم تصاعد الدعوات لفك ارتباط الدول به. فكل محاولة لكسر هذه الهيمنة، سواء عبر اتفاقيات تجارية ثنائية، أو إطلاق عملات رقمية وطنية، أو حتى بناء تكتلات اقتصادية جديدة، تصطدم بجدار من التعقيدات الهيكلية التي نسجتها واشنطن على مدى عقود. من أسواق الطاقة التي تُسعّر بالدولار، إلى أدوات الدين الأميركية التي تُعتبر ملاذًا آمنًا للمستثمرين، ومن المؤسسات المالية الدولية التي تتحدث بلغة الدولار، إلى التكنولوجيا التي تدير حركة المال عبر بوابات أميركية، تتجلى شبكة نفوذ عميقة تجعل من العملة الخضراء أكثر من مجرد وسيلة تبادل، بل أداة سيطرة.
هذا الاستطلاع يفتح الصندوق الأسود لهيمنة الدولار، ويغوص في جذورها التاريخية، وأسباب استمرارها، والتحديات التي تواجه من يحاول زحزحتها. فهل العالم مستعد فعلاً لعصر ما بعد الدولار؟ أم أن كل الطرق، مهما تنوعت، لا تزال تؤدي إلى واشنطن؟

خبير قطاع الاستثمار \ الدكتور علي الدكروري رئيس مجلس إدارة CTrustGlobal
الدولار في مفترق التحولات:
أكد خبير الاستثمار الدكتور علي الدكروري رئيس مجلس إدارة CTrustGlobal في حديثه” “لمجلة الاستثمارات الإماراتية “ أن الدولار لم يعد مجرد عملة، بل منظومة نفوذ عالمي بُنيت على مدى قرن ورغم محاولات كبرى لتقليص هيمنته، لا تزال الأسواق والثقة القانونية تتحدث بلغته لكن العقد القادم يحمل ملامح نظام مالي أكثر تنوعاً، حيث تتقاسم العملات الإقليمية النفوذ دون إقصاء الدولار
وأوضح أن الدولار ليس مجرد عملة، بل هي منظومة نفوذ عالمية متشابكة تشكلت عبر قرن من الزمن فالدولار اليوم يتجاوز كونه وسيلة دفع، ليصبح أداة هيمنة ناعمة تربط الاقتصاد العالمي بالبنية المالية الأمريكية، من الطاقة إلى الديون إلى التجارة الدولي
ورغم محاولات دول كبرى مثل الصين وروسيا وتكتل “البريكس” تقليص الاعتماد عليه، إلا أن هذه المساعي تصطدم بواقع أكثر تعقيداً: سيولة الأسواق، الثقة القانونية، ونظام مالي عالمي كل هذا يتحدث بلغة الدولار
وأشار خبير الاستثمار إلي أننا أمام مرحلة انتقالية نحو تعددية نقدية إقليمية، حيث ستبرز تكتلات مالية بعملاتها الخاصة، لا لتقصي الدولار، بل لتشاركه النفوذ.
ونوه أن هيمنة الدولار لن تبقى احتكاراً مطلقاً، بل ستتحول إلى دور مركزي متوازن ضمن منظومة مالية أكثر تنوعاً وأن العقد المقبل سيشهد إعادة تشكيل ميزان القوى المالية العالمية، وسيظل الدولار في قلب هذه المنظومة ليس لأنه لا يُهزم، بل لأن العالم لم يجد حتى الآن بديلاً أكثر استقراراً منه.

خبير العلاقات الدولية \ الدكتور بسام أبو عبدالله
الدولار سيد اللعبة
وبحسب خبير العلاقات الدولية الدكتور بسام أبو عبدالله في حديثة” لمجلة استثمارات الإماراتية “ أن رغم تصاعد الدعوات إلى تقليل الاعتماد على الدولار الأميركي، لا تزال هيمنته على النظام المالي العالمي راسخة، مدعومة ببنية تحتية مالية عميقة وسيولة لا تُضاهى. وبينما تسعى دول كبرى إلى تنويع احتياطاتها، تكشف الأرقام والوقائع أن تغيير هذه المعادلة أصعب من أي وقت مضى
وأوضح الخبير أن الاحتياطيات العالمية المهيمنة: بحسب بيانات صندوق النقد الدولي، أن الدولار يحتفظ بأكثر من 50% من إجمالي العملات المعلنة في الاحتياطيات الرسمية، مع تغييرات طفيفة رغم تقلبات أسعار الصرف وسيولة مطلقة في أسواق الفوركس فالدولار طرف في نحو 80–90% من صفقات العملات الأجنبية، ما يمنحه قدرة تحويل ضخمة دون تكاليف سعرية كبيرة.
بالإضافة إلي السيطرة على المدفوعات الدولية حيث يمثل الدولار نحو 50% من قيمة المدفوعات عبر شبكة SWIFT، مقابل 21% لليورو، و3% فقط لليوان الصيني. أما الذهب والبدائل تنمو ببطء رغم زيادة امتلاك المصارف المركزية للذهب، يبقى هذا التحول تدريجيًا ولا يهدد مكانة الدولار كعملة احتياطية أولي
كما أشار خبير العلاقات الدولية الدكتور بسام أبو عبدالله أن التحليل الاقتصادي والسياسي يكشف عن أربعة أسباب رئيسية تجعل تغيير هيمنة الدولار تحديًا معقدًا تأتي في المقدمة سيولة الأسواق الأمريكية وسوق سندات الخزانة الأمريكية هو الأكبر والأكثر سيولة عالميًا، ويُعد مرجعًا للأصول “الآمنة و أي بديل يحتاج إلى بنية مماثلة من حيث الحجم والموثوقية، وهو أمر لا يُبنى بين ليلة وضحاها
والأمر الثاني هو تأثير الشبكات والمعايير: أنظمة التسعير، العقود التجارية، والبنى المصرفية كلها مبنية على الدولار. هذا التكامل الشبكي يولّد قوة بقاء ذاتية، تجعل من الصعب على أي عملة أخرى اختراق المنظومة القائمة
والثالث هو الضمانات السيادية والسياسية: قدرة الولايات المتحدة على إصدار دين مقبول عالميًا، مدعومة بنظام قضائي موثوق وإطار قانوني توافقي، تمنح الدولار ثقة لا تتوفر لمعظم العملات الأخرى.
أما الرابع تكاليف التحويل والتنسيق: تغيير عملة الفوترة في سلاسل الإمداد العالمية يتطلب إعادة صياغة العقود، تغطية مخاطر سعر الصرف، وإنشاء أسواق مشتقات جديدة، ما يفرض تكاليف أولية مرتفعة تتجنبها الشركات ما لم تكن هناك فوائد ملموسة
وأوضح أبو عبد الله أن رغم الجهود المتزايدة لتقليل الاعتماد على الدولار مثل استخدام اليوان في بعض العقود، اتفاقيات المقاصة بالعملات المحلية، ومبادرات BRICS — إلا أن النتائج تبقى محدودة. فحصة الإيوان في الاحتياطيات العالمية لا تتجاوز 2.3% وفق بيانات IMF، رغم امتلاك الصين لاحتياطي نقدي ضخم يفوق 3.3 تريليون دولار.
أما البرازيل، فتستخدم احتياطاتها (300–355 مليار دولار) لتثبيت عملتها، مع تركيز واضح على السيولة بدلاً من التحول إلى الذهب الذي لا يمثل سوى 2–3% من الحافظة. الإمارات من جهتها رفعت نسبة الذهب في احتياطاتها إلى نحو 19% في 2025، في حين زادت الهند حصتها الذهبية إلى 13–15%، ضمن استراتيجية تنويع نشطة
ونوه خبير العلاقات الدولية أن الجهود الرامية إلى تقليص هيمنة الدولار مهمة وستستمر، لكنها تصطدم بجدار بنيوي من السيولة العميقة والبنية التحتية المالية العالمية التي يصعب استبدالها. العقوبات الأميركية وتسيس النظام المالي يدفعان الدول للبحث عن بدائل، لكن النتيجة المرجحة هي ازدواجية عملات إقليمية وتعقيد أكبر في التجارة العالمية، لا انهيار فوري للدولار

الدكتور \ مدين علي أستاذ النظرية الاقتصادية المعاصرة بجامعة دمشق
الدولار الأمريكي… لماذا لا يزال بلا منافس؟
ومن جانبه أكد الدكتور مدين علي أستاذ النظرية الاقتصادية المعاصرة بجامعة دمشق في تصريحاته” لمجلة الاستثمارات الإماراتية” أننا في عالم تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية، وتتصاعد فيه الدعوات لإنهاء هيمنة الدولار، يبقى السؤال المركزي مطروحًا: لماذا لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بقدرتها على فرض عملتها كأداة الدفع والتحوط والاحتياط الأولى عالميًا؟ ولماذا لم تنجح حتى الآن أي قوة اقتصادية أو تحالف دولي في تقديم بديل حقيقي؟
وأوضح أن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع تأسيس نظام “بريتون وودز”، تكرّست قيادة الدولار كعملة احتياطية عالمية، مدعومة آنذاك برصيد ذهبي ضخم لدى الولايات المتحدة. لكن هذه المرحلة انتهت فعليًا في سبعينيات القرن الماضي، حين ألغى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون التزام بلاده بمبادلة الدولار بالذهب، معلنًا بداية عهد جديد من السيادة النقدية غير المرتبطة بالذهب.
ورغم انتهاء عصر “الغطاء الذهبي”، لم تتراجع مكانة الدولار، بل تعززت بفعل شبكة متكاملة من العوامل البنيوية والاستراتيجية التي جعلت منه عملة لا غنى عنها في التجارة الدولية، والاحتياطيات، والمدفوعات، وحتى في التحوط المالي
وأشار إلي التفوق التقني والمعرفي للاقتصاد الأمريكي، حيث يشكل الابتكار والتكنولوجيا أحد أهم مصادر النمو والثروة.
بالإضافة إلي السيطرة على تسعير الطاقة عالميًا، إذ يُسعّر النفط بالدولار، ما يعزز الطلب عليه. بجانب الاستقرار الاقتصادي النسبي للولايات المتحدة، مقارنة بالاقتصادات الكبرى الأخرى و عسكرة الاقتصاد العالمي، حيث تلعب الولايات المتحدة دورًا محوريًا في صفقات السلاح والتمويل العسكري
الحضور العالمي للشركات الأمريكية العملاقة، التي تهيمن على قطاعات التكنولوجيا، المال، والخدمات. القدرة على توفير السيولة الدولارية عالميًا، وتلبية الطلب المتزايد على الدولار
الثقة الدولية بقدرة الاقتصاد الأمريكي على تجاوز الأزمات، ما يعزز مكانة الدولار كملاذ آمن استقلالية البنك الفيدرالي الأمريكي، وسياساته النقدية المرنة التي تركز على الاستقرار والنمو
إلى جانب ذلك، تلعب الولايات المتحدة دورًا محوريًا في خلق الحاجة العالمية للدولار، سواء عبر التجارة الخارجية الضخمة، أو عبر التوظيفات الدولية الكبرى في البنوك والصناديق الأمريكية، أو من خلال توظيف السياسة الدولية لخدمة الاقتصاد والدولار والعكس
البدائل… محاولات لا ترقى إلى التغيير
وأكد المصدر ذاته أن رغم إطلاق اليورو كمحاولة أوروبية لكسر هيمنة الدولار، ورغم جهود مجموعة دول “البريكس” لتأسيس نظام مالي بديل، إلا أن المعطيات الراهنة لا تبشّر بإمكانية واقعية للتخلي عن الدولار في الأفق القريب أو المتوسط. فعملات الدول الكبرى الأخرى، رغم قوتها، لا تمتلك البنية التحتية المالية العالمية، ولا السيولة الكافية، ولا الثقة الدولية التي يتمتع بها الدولار
ونوه أن الدولار الأمريكي لا يهيمن فقط لأنه مدعوم بسياسات اقتصادية قوية، بل لأنه متجذر في بنية النظام المالي العالمي. من التكنولوجيا إلى الطاقة، ومن التجارة إلى الأمن، ومن السياسات النقدية إلى الاستثمارات الدولية، يظل الدولار في قلب المعادلة. أما البدائل، فهي موجودة نظريًا، لكنها تفتقر إلى المقومات العملية التي تؤهلها لتولي الدور القيادي

الدكتور \كريم عادل رئيس مركز العدل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية
الدولار الأميركي… الهيمنة التي يصعب كسرها لأنها تخدم الجميع
في هذا الشق أكد الدكتور كريم عادل رئيس مركز العدل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية في تصريحاته “لمجلة استثمارات الإماراتية” إن الحديث عن إنهاء هيمنة الدولار الأميركي على النظام المالي العالمي يبدو جذابًا في الخطاب السياسي، لكنه يصطدم بواقع اقتصادي شديد التعقيد، يجعل من هذه الهيمنة ضرورة أكثر منها خيارًا. فالدولار لا يهيمن فقط لأنه عملة قوية، بل لأنه متداخل في بنية النظام المالي العالمي، من الاحتياطيات إلى الديون، ومن أنظمة الدفع إلى التجارة الدولية.
مشير إلي الصين، التي تُعد أبرز مناهضي هيمنة الدولار، هي في الوقت ذاته أحد أكبر داعميه، بحيازتها ما يقرب من ثلاثة تريليونات دولار كاحتياطي نقدي، وكونها ثاني أكبر مشترٍي لسندات الخزانة الأميركية. وهذا التناقض يكشف أن السعي لتقليص الاعتماد على الدولار لا يعني الرغبة في انهياره، بل في حماية المصالح الوطنية من تقلباته، دون المساس باستقرار النظام العالمي.
وأشار إلي التكتلات مثل “بريكس”، التي تأسست بهدف بناء نظام مالي بديل، اختارت أن تبدأ برأس مال دولاري في بنكها التنموي، ما يعكس غياب التصور العملي لنظام متعدد العملات. فالدول، بما فيها القوى الكبرى، لا تزال بحاجة إلى الدولار لسداد ديونها، تمويل وارداتها، وضمان استقرار أسواقها.
موضحا إن التخلص من الدولار يعني إعادة هندسة النظام المالي العالمي بالكامل، بما يشمله من أنظمة تحويل ومقاصة، مؤسسات تمويل، وأسواق طاقة وتسعير. وهذا التحول، إن حدث، سيخلق ارتباكًا عالميًا غير مسبوق، ويضر أولًا بمن يسعون إليه، وعلى رأسهم الصين التي ستخسر مليارات من قيمة سنداتها، وتواجه تراجعًا في صادراتها واستثماراتها
لذلك، فإن استمرار هيمنة الدولار ليس مجرد إرث من الحرب العالمية الثانية، بل هو صمام أمان للاستقرار الاقتصادي العالمي، مهما تعددت الدعوات لكسرها. فكل الطرق، في النهاية، لا تزال تؤدي إلى واشنطن

الخبير الأكاديمي \الدكتور كامل وزنة استاذ سابق في جامعة نيويوك
سيناريوهات المستقبل
وفيما يتعلق بتوقعات والتداعيات المحتملة لمستقبل الدولار يري الخبير الأكاديمي الدكتور كامل وزنة استاذ سابق في جامعة نيويوك في حديثة” لمجلة استثمارات الإماراتية” إنه لا تزال العوامل الاقتصادية والجيوسياسية تزيد من حوافز البنوك المركزية العالمية على تنويع احتياطاتها من النقد الأجنبي، فإن الحقيقة أن الدولار يظل قوياً وراسخاً في الاقتصاد العالمي إلى الحد الذي يمنع الدول من التحول إلى العملات الأخرى؛ وذلك لأن مكانة هذه العملات المنافسة باعتبارها عملةً للدفع والاحتياط قد تآكلت، فيما تتباهى الولايات المتحدة في المقابل باقتصاد يظل الأكبر حجماً والأكثر ديناميكيةً من اقتصادات الدول الأخرى. وحتى لو تمكنت الصين يوماً من منافسة القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، فإنها لا تمتلك الإطار المؤسسي القوي اللازم للتنافس مع واشنطن.
وفي نهاية المطاف، لا يتعلق تفوق الدولار بقوة الولايات المتحدة بقدر ما يتعلق بنقاط الضعف في اقتصادات بقية دول العالم. وإلى أن يتغير هذا التفاوت، لا يُتوقَّع تراجع الدولار الأمريكي عن المقدمة
التعليقات مغلقة.